واقع النزوح والأزمة الإنسانية جراء الهجوم التركي على شمال شرقي سوريا
GAV – الحسكة
شهدت مناطق شمال شرقي سوريا أزمة إنسانية كبيرة نتيجة النزوح الجماعي للأهالي من الشريط الحدودي، على إثر العملية العسكرية التركية التي بدأت في 9 أكتوبر/ تشرين الأول 2019 في المناطق الممتدة بين مدينتي رأس العين/سري كانيه وتل أبيض الحدوديتين، الأمر الذي تسبب بنزوح أكثر من (300 ألف نازح/ة)، بينهم (90 ألف طفل)، وذلك حسب إحصائيات السلطات المحلية.
المناطق المستهدفة ووجهة النازحين
شمل الهجوم العسكري التركي المدعوم من فصائل سورية مسلحة تابعة لأنقرة مناطق متفرقة من الشريط الحدودي، بما فيها مدن وبلدات في إقليم الجزيرة (رأس العين / سري كانيه وريفها، تل تمر وريفها، زركان والمناجير وأبو راسين ومبروكة) إلى جانب مدن وبلدات في ريف الرقة الشمالي أهمها (تل أبيض وعين عيسى وريفيهما)، علماً أن عدد السكان في المناطق المستهدفة كان يبلغ نحو (300) ألف نسمة وفق إحصائيات السلطات المحلية.
وشكلت المناطق البعيدة عن الشريط الحدودي وجهة رئيسية للنازحين الفارين من القصف الجويّ والمدفعيّ التركيّ والفصائل المسلحة التابعة لأنقرة، مثل مدينة الحسكة وبلدة تل تمر وبعض من المدن الأخرى قرب الحدود العراقية – السورية كالمالكية / ديريك، رميلان، كركي لكي/ معبدة، لكن احتداد المعارك من قبل الجيش التركي على ريف بلدة تل تمر تسبب بموجة نزوح ثانية باتجاه مدينة الحسكة هذه المرة، بسبب مخاوف المدنيين من إمكانية وصول القوات التركية ومسلحي الفصائل المدعومة من أنقرة إلى البلدة. أما حركة النزوح من ريف الرقة الشمالي فتركزت على مدن الرقة والطبقة وكوباني، إضافة إلى أماكن متفرقة من المناطق الريفية في إقليم الجزيرة ومحافظة الرقة.
مراكز الإيواء ومخيمات النزوح
شكلت مناطق شمال شرقي سوريا منذ بدء النزاع في سوريا عام 2011، وجهة لأعداد كبيرة من النازحين السوريين الفارين من العمليات العسكرية من مختلف المناطق، وبعد تحرير ريف دير الزور الشرقي من سيطرة تنظيم “داعش” نقل الآلاف من أفراد عائلات مقاتلي التنظيم إلى مخيم الهول شرقي الحسكة، الذي كان يمثل واحداً من أصل ثمانية مخيمات منتشرة في شمال شرقي سوريا قبل بدء الهجوم التركي الذي أجبر السلطات المحلية إلى تخصيص مخيمين إضافيين للنازحين الفارين من المناطق الحدودية، هما مخيم “واشو كاني” قرب بلدة التوينة شرقي الحسكة 10 كم، ومخيم بلدة “تل السمن” في ريف الرقة الشمالي.
تستضيف المخيمات العشرة في شمال شرقي سوريا أكثر من (28 ألف عائلة) تشكل (115) ألف نسمة، بينها (800) عائلة مقيمة في مخيم (واشو كاني) يشكلون (4650) نسمة حتى تاريخ 27 ديسمبر / كانون الأول 2019، في حين يأوي مخيم “تل السمن” (98) عائلة تشكل (380) نسمة، فيما تؤكد السلطات المحلية أن القدرة الاستيعابية للمخيم ستصل إلى ألف خيمة.
لا تقتصر أماكن إقامة النازحين على المخيمات التي تديرها السلطات المحلية بالتعاون مع المنظمات المحلية، إذ تحولت (148) مدرسة إلى مراكز إيواء في عموم إقليم الجزيرة، بينها (67) مدرسة في مدينة الحسكة وحدها، ما تسبب بأزمة إضافية تتمثل في حرمان الآلاف من الطلاب من الوصول إلى الخدمات التعليمية. إضافة إلى ذلك يأوي عشرات الآلاف من النازحين في منازل مستأجرة في مختلف مدن إقليم الجزيرة وخصوصاً القامشلي والحسكة.
يواجه المقيمون في المخيمين الجديدين (واشو كاني، تل السمن) نقصاً حاداً في الخدمات الأساسية مثل (النقاط الطبية والصحية، نقاط تعليمية لدمج الطلاب المتضررين المقيمين في المخيمين، الصرف الصحي ودورات المياه، تراكم الوحل وصعوبة التنقل في المخيم، مشاكل التدفئة .. إلخ)، وذلك في ضوء ضعف الإمكانات المتاحة سواء للسلطات المحلية أو للمنظمات المحلية رغم الجهود المبذولة لتوفير هذه الخدمات على الرغم من التجاهل المستمر من قبل المنظمات الدولية وعلى رأسها وكالات وهيئات الأمم المتحدة.
جدير بالذكر أن إجمالي أعداد المقيمين في مخيمي (واشو كاني وتل السمن) ومختلف مراكز الإيواء في عموم إقليم الجزيرة لا يتجاوز (30) ألف نسمة من أصل (300) ألف نسمة هم إجمالي عدد النازحين الفارين من الهجوم التركي، إذ يقيم معظم هؤلاء إما في منازل مستأجرة أو عند أقاربهم ومعارفهم في بقية المدن.
نازحون خارج المخيمات ومراكز الإيواء
يشكل النازحون المقيمون عند أقاربهم أو معارفهم النسبة العظمى من إجمالي عدد الفارين من الهجوم العسكري التركي، لأنهم لا يرغبون في الانتقال إلى المخيمات ومراكز الإيواء بسبب افتقارها للحد الأدنى من الشروط الملائمة للإقامة مثل مستوى الخدمات الطبية والصحية والتعليمية والنظافة والصرف الصحي وغيرها، خصوصاً بعد حلول فصل الشتاء الذي يشهد انخفاضاً كبيراً في درجات الحرارة، ناهيك عن بدء موسم الأمطار، الأمر الذي يثير مخاوف النازحين من انتشار الأوبئة بين الأطفال والمسنين والمرضى المحتاجين إلى الرعاية المستمرة.
تسببت موجات النزوح المتكررة التي يمر بها سكان شمال شرقي سوريا بتراجع قدرتهم على الصمود أمام الصعوبات التي تعترضهم، بسبب خسارتهم لممتلكاتهم ومصادر معيشتهم في مناطقهم الأصلية وانتقالهم إلى بيئات أخرى تعاني أساساً من نقص كبير في البنية التحتية المدنية القادرة على استيعاب هذه الأعداد الكبيرة من النازحين.
ولا تقتصر الأزمة على النازحين فحسب، بل تتعدى آثارها لتصل إلى المجتمع المضيف في المدن التي تشكل وجهة أساسية لموجات النزوح، خصوصاً وأن معظم النازحين يقيمون عند أقاربهم أو معارفهم، ما يشكل عبئاً مادياً إضافياً على العائلات المضيفة الأمر الذي يشكل تحدياً إضافياً في توفير فرص وبرامج سبل العيش على نطاق واسع لتمكين النازحين من الحصول على مصادر جديدة للدخل بدلاً عن تلك التي فقدوها بعد الهجوم العسكري التركي واستيلاء الفصائل المسلحة على أملاكهم ومنازلهم وتهجيرهم منها.
عشرات الآلاف من الطلاب المتضررين
لعل من أهم تداعيات العمل العسكري التركيّ هو تضرر العملية التعليمية وخروج مرافقها عن الخدمة مع حرمان عشرات الآلاف من الطلاب والطالبات من الوصول إلى الخدمات التعليمية، الأمر الذي ينعكس بشكل سلبي على الواقع التعليمي ويؤدي ظهور فجوة كبيرة في هذه العملية نتيجة انقطاع الطلبة عن التعليم، خصوصاً مع ضعف إمكانات السلطات المحلية في توفير الاستجابة الطارئة الملائمة نظراً لتجاهل المنظمات والمؤسسات الدولية لدورها في هذا المجال، مثل تأمين الاحتياجات اللازمة لدمج الطلاب النازحين في العملية التعليمية مجدداً وبأقرب وقت ممكن.
وفقاً للإحصائيات والمعلومات الموثقة، فقد تسبب الهجوم العسكري التركي بخروج أكثر من (200) مدرسة عن الخدمة في المناطق التي دخلها الجيش التركي ومسلحي الفصائل المدعومة من أنقرة، ناهيك عن تحول (148) مدرسة إلى مراكز إيواء في بقية المدن، ليصل عدد الطلاب المحرومين حالياً من التعليم في عموم إقليم الجزيرة (شمال شرقي سوريا) إلى نحو (86) ألف طالب من مختلف المراحل الدراسية.
هذا وتحاول السلطات المحلية (هيئة التربية والتعليم) تكثيف ساعات الدوام في المدارس المتاحة وإضافة فترة مسائية لاستقبال أكبر عدد ممكن من الطلاب المتضررين، سواء من النازحين أو من أهالي المدن والبلدات المضيفة.
تجاهل الأمم المتحدة والمنظمات الدولية للكارثة الإنسانية
أدى تجاهل المنظمات الإنسانية الدولية وعلى رأسها هيئات ووكالات الأمم المتحدة للأزمة الإنسانية في شمال شرقي سوريا، والامتناع عن تقديم المساعدات وتوفير استجابة طارئة لاحتياجات مئات الآلاف من المتضررين جراء الهجوم العسكري التركي إلى تفاقم الوضع الإنساني بشكل غير مسبوق، إذ حذرت منظمة (أطباء بلا حدود) من عدم قدرة السكان بسبب تكرار موجات النزوح على مواجهة الصدمات على أكثر من صعيد، من بينها الصدمات النفسية.
ومع مرور أكثر من ثلاثة أشهر على بدء الهجوم العسكري التركي، تستمر مفوضية شؤون اللاجئين التابعة للأمم المتحدة في الامتناع عن ممارسة دورها الإنساني في إدارة شؤون النازحين المقيمين في مخيمي (واشو كاني وتل السمن) ناهيك عن عشرات الآلاف المقيمين في مراكز الإيواء ومدن إقليم الجزيرة (شمال شرقي سوريا) على الرغم من المناشدات المستمرة من قبل المنظمات المحلية التي تتحمل عبء هذه الأزمة الكبيرة وسط شح الإمكانيات وعدم توفر الدعم اللازم من قبل الأمم المتحدة أو حتى المنظمات الدولية المانحة الأخرى.
في سياق متصل، تسبب قرار المنظمات الدولية التي كانت تعمل في مناطق شمال شرقي سوريا سحب موظفيها بعد أيام من بدء الهجوم العسكري التركي لاعتبارات أمنية، تسبب بإيقاف أنشطتها بشكل فوري وغير متوقع، قبل أن تستأنف بعض تلك المنظمات أنشطتها في المنطقة ولكن بشكل جزئي بعد غياب دام لأسابيع.
هذا الغياب لدور المنظمات الدولية الإنسانية وخصوصاً هيئات ووكالات الأمم المتحدة، أثقل كاهل مؤسسات المجتمع المدني المحلية التي تعتمد أساساً في سياق تنفيذ أنشطتها الإنسانية وغيرها على المنح المقدمة عبر نظيراتها الدولية، ما تسبب بأزمة كبيرة في تأمين الاستجابة الإنسانية الطارئة الملائمة لحجم الأزمة. إذ اضطرت معظم منظمات ومؤسسات المجتمع المدني المحلية للاعتماد على إمكانياتها المحدودة وعلى تبرعات السكان المحليين في توفير جزء ضئيل من احتياجات النازحين، فيما تستمر حالة التجاهل من قبل المنظمات الدولية حتى هذه اللحظة، دون وجود أي مبرر لهذا التجاهل.
وأخيراً، تطالب منظمة “GAV” للإغاثة والتنمية المنظمات الإنسانية الدولية وهيئات ووكالات الأمم المتحدة بالتالي:
- تحييد العمل الإنساني عن التجاذبات السياسية واعتماد المبادئ الإنسانية معياراً لتوفير الاستجابة المناسبة لحجم الكارثة الإنسانية في مناطق شمال شرقي سوريا.
- تفعيل برامج الاستجابة الإنسانية الطارئة التي تستهدف النازحين الفارين من الهجوم العسكري التركي.
- دعم المؤسسات الإنسانية المحلية لتوفير وصول سريع وفعال إلى المتضررين سواء في المخيمات أو مراكز الإيواء أو خارجها.
- دعم برامج تأهيل البنى التحتية في مخيمي “واشو كاني وتل السمن” كالنقاط الطبية والتعليمية والصرف الصحي وغيرها.
- تأمين عودة آمنة للأهالي الراغبين بالعودة إلى مناطقهم في رأس العين/سري كانيه وتل أبيض الواقعة تحت سيطرة الجيش التركي والفصائل التابعة له وتحت إشراف الأمم المتحدة مع ضمان سلامتهم.
- تسليط الضوء على واقع المناطق الواقعة تحت سيطرة الجيش التركي والفصائل المدعومة منه في سري كانيه / رأس العين وتل أبيض، وما يتعرض له من تبقى من السكان هناك لانتهاكات وثقتها منظمات حقوقية دولية ومحلية.